Al-Mawadda

Al-Mawadda

عظة لعيد رئيس الملائكة ميخائيل

في 8 تشرين الثاني2014 احتفل راعي الأبرشيّة بالقداس الإلهيّ في دير الملاك ميخائيل للراهبات الباسيليات الحلبيات – ذوق مكايل، وألقى العظة التالية

تقول الرسالة إلى العبرانيّين: “الملائكة أرواحٌ خادمة تُرسَل للخدمة من أجل المزمعين أن يرثوا الخلاص” (14:1). الملائكة هم إذن مرسلو الله ليعلنوا للمؤمنين طريقَ الخلاص. ويذكر الكتاب المقدس بنوع خاص “جبرائيل” ويعني اسمُه “قدرةَ الله”، وميخائيل ويعنى اسمه “مَنْ مثلُ الله”. فجبرائل “قدرة الله” أعلن لمريم العذراء أنّها ستلد المخلّص بقدرة الله إذ قال لها: “الروح القدس سيحلّ عليك وقدرةُ العليّ تظلّلكِ” (لو 35:1). وعن ميخائيل “من مثل الله”، نقرأ في سفر الرؤيا: “حينئذ نشب قتالٌ فِي السَّمَاء: مِيخَائِيلُ وَمَلاَئِكَتُهُ قاتلوا التِّنِّينَ، والتِّنِّينُ وَمَلاَئِكَتُهُ أنشبوا القتال، ولكنّهم لَمْ يَقْوَوْا، ولا وُجِد لهم موضعٌ بَعْدَ ذلك فِي السَّمَاءِ. وَطُرِحَ التِّنِّينُ الْعَظِيمُ، الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ الْمَدْعُوُّ “إِبْلِيسَ” وَ”الشَّيْطَان”، المُضِلُّ الْمسكونةَ بأسرها؛ طُرِحَ إِلَى الأَرْضِ، وَطُرِحَتْ مَعَهُ مَلاَئِكَتُهُ. وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا فِي السَّمَاءِ: “الآنَ صَارَت الغلبةُ والَقُدْرةُ وَالمُلْكُ لإلهنا، والسلطانُ لمسيحه! لأنّ المُشْتَكِي عَلَى إِخْوَتِنَا قد طُرِح، ذاك الذي يشتكي عليهم أمام إلهنا، نهارًا وليلاً. فلقد غَلَبُوهُ بِدَمِ الْحمل، وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ” (7:12). الملاك ميخائيل يُعلِن إذن “من مثلُ الله”. أمّا “إِبْلِيسَ” أو “الشَّيْطَان”، الذي ترمز إليه الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ، فيُضِلُّ البشرَ الذين يمثّلهم آدم وحوّاء بإقناعهم بالتخلّي عن الله وعن سماع كلمته ليصيروا آلهة بدلاً منه. فالإنسان الذي يريد أن يأخذَ محلّ الله يُعلن له ميخائيل: “من مثل الله”؛ إنّك إذا أردتَ أن تأخذ محلّ الله، “ستموت موتًا”، لأنّه لا حياة خارجًا عن الله الذي هو وحده خالقُ الكون ومعطي الحياة لجميع البشر.

هذه التجربة القديمة بأن يحاولَ الإنسان أن يحلّ محلّ الله لا يزال إنسان اليوم يتعرَّض لها. فبدل أن يتبعَ وصايا الله يصطنع لنفسه وصايا تناسب أمياله المنحرفة. فيجعل من الخير شرًّا ومن الشرّ خيرًا. هذا ما يبيّنه بولس الرسول في رسالته إلى الرومانيّين، فيقول: “إنَّ غَضَبَ اللهِ يعْتلِنُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى كلّ كفرٍ وظلمٍ للنَّاسِ الَّذِينَ يَعوقونَ الْحَقَّ بِالباطل… زعَمُوا أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ فصَارُوا حمقى، واستبدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يُدرِكه البِلى بِشِبْهِ صُورَةِ إِنْسَانِ يبلَى… فلِذلِكَ أَسْلَمَهُمُ اللهُ، فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى النَّجَاسَةِ، لفضيحَةِ أَجْسَادِهِمْ في ذَوَاتِهِمِ، هم الذِينَ اسْتَبْدَلُوا حَقيقةَ اللهِ بِالْباطلِ، وَاتَّقَوْا الْمَخْلُوقَ وَعَبَدُوه دُونَ الْخَالِق” (18:1-25). ثم يسترسل بولس في وصف المآثم والفظائع الناتجة للأفراد وللمجتمع من التخلّي عن الله. ويذكر في ما يذكر ما نراه الله في بعض المجتمعات من تشويه للزواج، كزواج المثليّين والمساكنة وما شابه ذلك. لكلّ هؤلاء يقول الملاك ميخائيل: “من مثل الله”؛ الله وحده يمكنه أن يعطيكَم تحقيقَ إنسانيّتكم، والوصول إلى التألّه الذي أراد آدم وحواء الحصول عليه من دون الله.

هناك بعدٌ آخر لرسالة الملاك ميخائيل. فالملاك ميخائيل يقول للإنسان “أنت مثل الله”، بمعنى أنّك خُلِقتَ على صورة الله ومثاله. يؤّكد آباء الكنيسة الشرقيون أنّ الإنسان بالخطيئة فقد المثال، غير أنّه حافظ على الصورة. والصورة التي خُلِق عليه الإنسان هي المسيح كلمة الله. إنّ التألّه هو رغبة الإنسان العميقة، وقد وضعها الله في طبيعته منذ خلقه. لكنّ الإنسان أراد منذ البدء، ولا يزال اليوم، الوصول إلى التأله من دون الله. لكن من دون الله ما يصل إليه هو الموت، الذي عبّر عنه سفر التكوين بشكل رمزيّ بقوله إنّ آدمَ وحواء بعد خطيئتهما أصبحا عاريين، واختبأا في الفردوس. لقد احترم الله رغبةَ الإنسان في التألّه، لكنّ آدم أخطأ الطريقَ التي تقوده إلى التألّه. لأنّ تألّه الإنسان لا يمكن أن يتحقّقَ له إلاّ من خلال الاتّحاد بالله. لذلك أرسل الله ابنه إلى العالَم ليتّحد به الإنسان ومن خلال هذا الاتّحاد يصل إلى التألّه. فتجسّد وأخذ صورة الإنسان ليعيدَ إلى الإنسان بهاء الصورة الأولى. هذا ما تعبّر عنه طروباريّة بيرمون عيد الظهور: “إجذلْ يا آدم مع الأمّ الأولى، ولا تختبئا في الفردوس قديمًا. فإنّ المسيح لمّا رآكما عاريين ظهر ليُلبسَكما الحلّة الأولى. لقد ظهر المسيح مريدًا أن يجدّدَ الخليقةَ كلّها”.

يقول بعض الملحدين إنّ وجود الله يمنع الإنسانَ من الوصول إلى تحقيق كمال إنسانيّته. فيما تؤكّد المسيحيّة أنّ الإنسان من دون الانفتاح على الله لا يستطيعُ إلا أن يدورَ على نفسه، ولن يجدَ في هذا الدوران سوى العبثِ والفراغ. إنّ فيه توقًا إلى المطلق واللامحدود، كما يقول القديس أوغسطينُس: “لقد خلقتنا لأجلك يا الله، وقلبُنا لا يزال في حيرة واضطراب حتى يتّحدَ بك ويستقرّ فيك”. ولا وصول إلى المطلق إلا في الاتّحاد بيسوع المسيح، الذي هو والآب واحد، ولا يقدر أحد أن يصل إلى الآب إلاّ به. إنّ رسالة الملاك ميخائيل تقودنا إذن إلى المسيح الذي هو “ضياء مجد الله، وصورةُ جوهره” (عب 3:1). ومن خلال هذا المجد وهذه الصورة نستطيع أن نستعيد بهاءَ صورتنا ونحقّقَ كمال إنسانيّتنا. المسيح هو الطريق إلى الله وإلى نفوسنا، هو الحقيقة وهو الحياة، “هو هو هكذا أمسِ واليوم وإلى الدهور”. آمين.