Al-Mawadda

Al-Mawadda

وكانت واقفة عند صليب يسوع أمه

سلسلة صفحات روحيّة

مع يسوع المسيح في لقاءاته

وكانت واقفة عند صليب يسوع أمه

هذا الذي عُلق على خشبة، بين لصّين كالمجرمين،
الذي تألّم آلامًا لا تُطاق،
الذي ثقلت عليه وطأة النقمة، وصهرته الأوجاع.
هذا الذي بلغت به محبّته لنا حتى بذل النفس،
الذي اطاع عن تمرّدنا حتّى الموت، موت المذلّة على الصليب،
الذي مات عنّا، لكي يعيد الينا الحياة.
ها هو الآن يُنزَل عن الصّليب، ويُلفّ بأكفان
ويحنّط بالأطياب.
ها هو الآن يُنزَل عن الصليب، ليُواري في قبر.

1-    هناك على جبل الجلجلة، عند الصليب

1)       هناك عند الصّليب نفس لا يخفاها شيء مما يحدث.
لقد رافقت سير الموكب الأليم، حتى وصلت إلى الجلجلة.
جنّدت كل قواها، ومشت وراء المسيح في مراحل دربه الشاقة.

2)  المصلوب

هذا الجسد الطاهر الذي شوّهته الجراح، كانت تعرفه حيًّا ينبض بالنّشاط والعزم.
– هاتان اليدان الهامدتان، كانت تعرفُهما مليئتين بالبركة والعجائب.
– هذا الفم المُغلَق، كان يعلّم الحقّ، وينطق بأسرار الله، ويفيض بآيات الرحمة والغفران.
– هذا الجبين المصفرّ، كانت تعرفُه ناصعًا، يُشرق عليه جلال السّماء.
– وهاتان العينان،
هاتان العينان الفريدتان، اللتان كان يصفو في أعماقهما نورٌ علويّ، اللتان لم يكن أحدٌ يجرؤ على التّحديق بهما لعمق نظرتهما.
هاتان العينان الإلهيّتان، اللتان كانتا تحملان في غورهما السحيق سرّ الوحي الإلهي، اللتان كانتا تنظران، من وراء الغيب، إلى أسرار المجهول.
هاتان العينان الإلهيّتان، أصفى وأجمل وأعمق ما خلق الله في الكون بأسره. اللتان لم يستطِع احد أن يحتمل شدّة عطفهما وحنانهما سوى تلك النفس الطاهرة الحاضرة عند الصّليب.
ها هما الآن، تحت نظرها – تُغمَضان قليلاً. تحتجب فيهما قليلاً إشراقة النّور البهيّ… كأنّما إبتعد قليلاً منبع النور السماويّ…
– كانت تسمع هتافات الشامتين، الذين طالبوا بصلب المخلّص.
كانت تسمع تجاديف المستهزئين، الذين رفعوا عقبهم على المحسن.
كانت تسمع نبرة الجنود القاسية، وهم يسوقون طريدتهم إلى موضع العذاب، إلى جبل الذّبيحة.
كانت تسمع عويل النساء بنات أورشليم، يَنُحنَ على شباب هذا الذي يُساق كحملٍ صامت لا يفتح فاه.
كانت تسمع كلّ شيء. كانت لا يفوتها شيء. سمتعه يقول: يا بنات أورشليم، لا تبكين عليّ، ابكين على نفوسكنّ وعلى أولادكنّ.
– رافقت الموكب المؤلم، حتّى وصلت إلى الجلجلة. وها هي الآن تعيش المرحلة الأخيرة من المأساة المفجعة.
لقد سمعت كلّ شيء. وشهدت كلّ شيء.
دقّات المطرقة على المسامير كانت تهشّم عظامها.
شوكات الإكليل على رأس يسوع كانت تُغرز في أوصالها.
صُراخُه على الصليب: أنا عطشان، كان يمزّق أحشاءها.
تضرّعه إلى أبيه: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ كان يُلهب قلبها أسًى وتفجّعًا.

2-    هناك على جبل الجلجلة، عند الصّليب، نفسٌ عميقة.

– هناك عند الصليب نفس عميقة.
عميقة التفكير، لأنّها تفكّر بوحي الإيمان.
عميقة الإحساس والشعور، لأنّها، من بعد المسيح، أقرب خليقة إلى الله.
عميقة الأسى والحزن.
عميقة الألم، عميقة الألم، حتى لا يمكنُ الكلام…
– نفسٌ عميقة غلّفت حزنها بالصمت البليغ، على مثال حمل الله الذي قُدِّمَ صامتًا ولم يفتح فاه.
لم يُسمَع من فمها تشكٍّ، ولا تذمر، ولا تأوُّه.
هي مثال الألم العميق، الألم العميق الواثق، الألم العميق المُخصِب.
هذه النفس الحزينة، الواقفة على جبل الجلجلة، عند صليب يسوع، هي مريم أمّه: “وكانت واقفة عند صليب يسوع أمّه” (يوحنّا 25:19).

2-    أمّه

1)    منذ أن بشّرها الملاك بأنّها ستشترك في سرّ التجسّد، بدأت تفهم كم سيجلب لها ذلك من التضحية والألم. وقبلت كلّ شيء.
ومنذ أن تنبّأ لها سمعان الشيخ في الهيكل أن “سيجوز سيفُ في نفسك” (لوقا 35:2)، لم يزل هذا السيف يرافقها مدّة حياتها.
– لقد فقدت ابنها يسوع، وهو بعد في الثانية عشرة من عمره. فبحثت عنه والوجع يلهب فؤادها، حتّى وجدته في الهيكل، فعاتبته: “لِمَ صنعتَ بنا هكذا يا بنيّ؟” (لوقا 48:2).
– فارقها حين أزفت ساعته ليذهب ويبشّر الشعب بالخلاص وبكلمات الحياة.
– لقد شاطرته أتعابه. سار قلبها معه على الدروب التي وطئتها قدماه.
نظرت معه إلى الآفاق التي سرّح فيها طَرفه.
– وشاركته في عذابه ومصاعبه. احتملت معه معاندات الخصوم، وكيد الحاسدين. عيناها دمعتا مع عينيه على أورشليم المدينة الشاردة في مهالك معاصيها.
– رافقته في جميع مراحل حياته. وسيف الشيخ سمعان يمزّق أحشاءها.
هذا السيف الذي اجتاز مرارًا في نفسها، ها هو اليوم يبلغ إلى أعماق قلبها: “ابن العذراء طُعِن بحربةٍ…”.

2)    وهي الآن واقفة عند الصليب.

هذه العذراء المتألّمة، التي تحسّ في جنبات كيانها بالوجع العميق.

هذه الأمّ التي تعاني آلامًا مبرّحة، بالاشتراك في آلام ابنها، هي صورة الألم العميق، الألم العميق الساجي.

ولكنّه ألم واثق، لأن له مواعيد الغلبة والخصب والجنى الشهيّ.

ولكنّه ألم قويّ، يخضع بمحبّة لأحكام الله السامية… ولذلك كانت صامدة القوى واقفة، واقفة عند صليب ابنها يسوع.

3- هذه العذراء القويّة، أمّ يسوع، هي أيضًا أُمّنا.

1)  منذ أن ردّت على بشارة الملاك: “إنّي أمة الربّ فليكن لي كما قلت” (لوقا 38:1)، تجسّد في أحشائها الطّاهرة ابن الله، وبدأت المرحلة الأولى من تحقيق خلاصنا على يدها.

وها هي عند الصليب تلدنا بالأوجاع. قال لها يسوع، وهو ينظر إلى يوحنّا الحبيب: “هوذا ابنُكِ”. وقال لنا يسوع في شخص يوحنّا الرسول: “ها هي ذي أمّك” (يوحنّا 26:19 و 27).

وهكذا تسلّمتنا العذراء وديعةً في وصيّة يسوع الأخيرة من على الصّليب.

2)  فهي تحبّنا وتهتمّ بشؤوننا.

– هذه الامّ التي فهمت مقاصد الله، وخضعت حتى الموت، هي تنال لنا النور والهدايا.
– هذه الأمّ القويّة التي كانت تتألّم واقفة. هي تنال لنا عزم الإرادة الثابت في سبل الخير.
– هذه الأمّ التي أحبّت يسوع، كما لا يستطيع لسانٌ أن يصف، هي تعلّمنا المحبّة البهيّة. هي تثبّتنا في محبّة الله، وحفظ وصاياه، إذا التجأنا إلى حماها العزيز وإلى وساطتها المقبولة. “فإنّه لم يُسمع بعد أنّ أحدًا التجأ إليها وطلب معونتها، والتمس شقاعتها وعاد مخذولاً”.

وأنت أيّتها العذراء مريم، يا أُمّنا الحبيبة.

أيّتها الفتاة العجيبة، ابنة بلادنا، التي فتنت بجمالها، بطهارتها، بغور نظرتها العميقة الصافية الغنيّة، بنظرتها التي تتفجّر فيها طاقات الصفاء والنقاوة، وينابيع الحنان والرحمة.

أيّتها العذراء العجيبة، نسيبتنا، التي فتنت بمحبّتها المضطرمة الشفافة كاللهيب الصافي،

قلبَ الآب السماويّفاتّخذها ابنةً له،
وقلب ابن الله الأزليّفاتّخذها أمًّا له،
وقلب الروح القدسفاتّخذها عروسةً له.

 

أيّتها البتول المتألّمة، أيّتها الأمّ الحزينة، يا شفيعة المسيحيّين. هذه البشريّة التي هي لكِ ولابنك الإلهي لا يعسُر عليكِ أن تجعليها أُمَّةً مثاليّة.

كثّري في عيالنا الرجال الأتقياء. والنساء الفاضلات والامّهات المضحّيات، والأولاد الأبرار الصالحين. حتى اذا عشنا بوحي فضائلكِ وبنور إرشادك في محبّة الله وحفظ وصاياه، واشتركنا في آلام المسيح الطاهرة، نستحقّ أن نفرح بأفراح قيامته المجيدة، مدى الحياة وإلى الأبد.

البروفسور الدكتور الأب عادل تيودور خوري