Al-Mawadda

Al-Mawadda

نبني معًا ثقافة السلام والعدل والمحبّة

الأب عادل تيودور خوري

رؤيتي لحوار الأديان، ولا سيما الحوار بين المسيحيّة والاسلام أعرِضها بعنوان: نبني معًا ثقافة السلام والعدل والمحبّة.
نحن جميعًا، شعوب هذا الشرق وجماعاته الدينيّة، نعيش في بقعة واحدة، ونخضع معًا لمصير واحد، ولنا معًا أمنية مشتركة أن يكون لنا حاضر مُفلح ومستقبل ناجح في ظلّ الأمن والعدل والحريّة والسلام.
ونحن جميعًا نعيش مع سائر شعوب الأرض في عالم تزجّه العولمة في تقارب لا مفلتَ منه، وتدفعه إلى وحدة لا مناص منها على المدى المتوسط البُعد. وهذا يجعلنا نوقن بأنّه لا يستطيع أحد من بعد أن يعيش وحده في عزلة متكبّرة، ولا تستطيع أي جماعة أن تضمن وحدَها لنفسها ازدهارها ومستقبلها. بل إنا جميعًا مترابطون، نعيش معًا، ونجهد معًا، ونسعى معًا إلى حلّ مشاكلنا المشتركة، ونعمل معًا على بناء مستقبلنا المشترك.
في هذا الوضع الراهن ليس لنا سوى سبيل واحد، سبيل الوعي للوضع وأبعاده، وسبيل التطلّع إلى المستقبل ببصيرة ثاقبة، وعزم ثابت على العمل المثمر، وسبيل بناء مجتمعٍ على أساس ثقافة السلام والعدل والمحبّة.

١- وهذا السبيل هو بدءًا سبيل التفاهم والحوار
سبيل التفاهم والحوار تعترضه عقبات كثيرة. منها ما يداهمنا من حقبات تاريخنا الماضي، ومنها ما ينبع من ظلمات وضعنا الحاليّ، ومنها ما ينجم عن نقائص قد تعترينا ويجب التنبّه لها.
إنه سيكون وعرًا هذا الطريق الذي يؤدّي إلى التغلّب على ماضينا الحافل بالعداوة والتراع، وعلى حاضرنا الذي لا يزال يعكّر صفاءه عدم الثقة والتحفّظ – سيكون وعرًا هذا الطريق الذي من شأنه أن يوصلنا إلى مستقبل أفضل يضحي فيه المسيحيّون والمسلمون في الشرق وفي العالم كلّه أصدقاء يساهمون معًا في بناء أسرة بشريّة واحدة.

٢- بعض العقبات التي تعترض ممارسة الحوار والتعاون
إنّ العوائق الأساسيّة التي تعترض ممارسة هذا الحوار هي:
١- أوّلًا التزمّت والانعزاليّة. التزمّت والانعزاليّة مقبرة الحاضر وهاوية تنهار في ثناياها آمال المستقبل. فمن ظنّ أنّه وحده يملك حلّ القضايا جميعًا، لم يكن على وعي لأبعاد هذه القضايا وتشابك عناصرها. ويتعامى عن أنّ قضايا المجتمع لا تُحَلّ إلّا بمساهمة جميع أعضائه.
٢- الجهل وانعدام الكفاءة. فمن لم يكن راسخًا في معرفة تراثه أو مبادئ اتّجاهه لا يصلح للحوار المثمر. فإنّ الجاهل في أمور تراثه يتعلّق إمّا بالقشور السطحيّة، أو بالتقاليد العِجاف، خوفَ الغرق في خضمٍّ لا طاقة له عليه. ومن لا يعرف تراث شريكه في المجتمع الواحد ومبادئ اتجاهه، لا يُحسن محاورتَه ومشاورته. فأسوأ ما يمكن أن يصيب دينًا أو أمّة أو جماعة، هو الجهل المتعسّف والتعصّب الجاهل.
٣- عدم الصبر على الفكر. وهذا الفكر يقوم بالتحليل المليّ للأمور في عناصرها ودقائقها، وقرائنها وترابطها. ومن الصبر على الفكر الشجاعة في تقبّل حقائق الأمور، وإن كانت في وضعها الراهن غير مُرضِية. ومن الصبر على الفكر الإقدام على النقد الذاتي، لتنوير الفهم وتصفية القلب والتنبّه للنقائص، لا النقائص التي تعتري الآخرين، بل النقائص التي تعترينا نحن. فنعمل على تقليص حجمها أو تنحيتها. عدم الصبر على الفكر خطبٌ عصيب. والصبر على الفكر مدعاة للأمل باسترجاع العافية والتبصّر المثمر في الأمور.
٤- عدم الصبر على المغايرة والاختلاف، مع العلم أن الزمن كلّه والتاريخ كلّه هو زمن صبر الله علينا، لكي نسعى إلى ردم الهوّة التي تفصل مسلكنا عن توجيهات مشيئته. فما أحوجَنا في ما بيننا في هذا العالم إلى احتمال اختلافاتنا في الفكر والقول والعمل.

صحيح أنّ هناك في صفوف المسيحيّين والمسلمين من يشك في ضرورة الحوار والتعاون أو في فائدتهما. ولكنّ هؤلاء يحكمون على أنفسهم وعلى مجتمعهم بالعزلة والانقباض على النفس، في زمن شرّع نوافذه للقاء مثمر بين جميع فئات المجتمع، أو في عالم يوقن على حقّ أن الحوار هو وحده له مواعيد النجاح.
وإنّ لدينا الكثير من القيم الدينيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة المشتركة ممّا يكفي ليجعلنا ننطلق باندفاع وثقة في عمليّة الحوار ومحاولة بناء ثقافة السلام والعدل والمحبّة.

٣- ثقافة السلام
يمكن وصفُ صيغة مستقبلنا المشترك بأنّها تمكين عيش مشترك يسود فيه وعيُ المصير الواحد والترابطُ الأخويّ بين جميع فئات المجتمع الواحد. ويرتكز هذا المستقبل على ثلاثة مبادئ أساسيّة تنال الجميع ولا يجوز استثناء أحدٍ من أيٍّ منها.
١. المبدأ الأوّل هو إرادة العيش المشترك، والعمل على إحلال السلام. إذ إنّه طوبى لفاعلي السلام. وتفصيل ذلك:
– أن نفعل السلام في قلوبنا نحن. وأن نفعل السلام في عيالنا. وأن نكون دُعاةَ السلام في مجتمعاتنا، ونتخطّى خصومات الماضي والحاضر.
– وأن نفعل هذا السلام مع الآخرين، أي أن نعمل على تأليف مجتمع مشترك يضمّ الجميع، ويضمّنا نحن والآخرين.
– وأن نفعل السلام مع الآخرين، أي أن لا نتفرّد بتحديد مفهوم السلام وتطبيق أساليب الوصول إليه، بل أن نسعى معًا، فنفكّر معًا ونقرّرَ معًا وننفّذ معًا.

٢. والمبدأ الثاني هو طلب المصالحة والتصافي. وهذا لا يعني أنّنا نتغافل عن صعوبات الماضي وعقبات الحاضر، بل نستفيدُ من عِبَر الماضي لتحسين أوضاع الحاضر، ونستفيد من تجارب الحاضر لبناء مستقبل مشترك أفضل.
٣. المبدأ الثالث الذي يسيّر فكرنا وعمَلنا نقرأه في الإنجيل المقدّس والقرآن الكريم.
قال السيّد المسيح: “أحبّوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم أنا” (يوحنا ١٥: ١٢؛ – ١٣: ٣٤).
وجاء في القرآن الكريم في سورة المائدة: “ولَتَجِدَنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى” (٥: ٨٢)
فنحن إذن أقرباء بعضُنا لبعض، ونحن أقرباء جميع الناس والناس جميعًا لهم علينا دينٌ دائم هو المحبّة والمودّة.
من هنا يتّضح واجبنا في العمل على توثيق التضامن مع الجميع. وعلى تنفيذ هذا التضامن، أي تضامن الجميع مع الجميع. فالقضيّة قضيّة حقيقة الاقتناع الباطنة، حقيقة توضَع موضع التنفيذ، وقضيّة محبّة شاملة تطبّق على الجميع.

٤- بناء المستقبل المشترك
إننا مسيحيين ومسلمين، ونظرًا إلى دورنا لمسؤوليّتنا المشتركة في سبيل إقامة نظام اجتماعيّ عادل، يقع على عاتقنا واجب التضامن بعضنا مع بعض وجمعِ قوانا وتشغيلِ إمكاناتنا لإيجاد حلول موافقة لمشاكل عالمنا المشترك.
على المسيحيين والمسلمين في شرقنا وفي العالم كلّه عليهم أن يُضحوا شركاء يعمل الواحد منهم مع الآخر. أجل، هناك أكثر من ذلك. عليهم أن يُمسوا أصدقاءَ يعمل الواحد منهم في سبيل الآخر، ويعملون معًا في سبيل البشريّة جمعاء، أصدقاء تربطهم بعضهم ببعض أواصر المودّة.
لا جرم أنّ الانتقال من باب الرؤية المستقبليّة إلى الواقع الحاضر والتطبيق العمليّ تعترضه عقبات متنوّعة، ولكنّه يمكن أن يقوم على العزيمة والصبر والجهد.
ونحن على يقين بأنّ الدين لا يفرّق، إن فهم فهمًا صحيحًا وطُبِّقَ تطبيقًا نصوحًا. الدين لا يفرّق، الدين يجمع. فكلّ من توجّه إلى ربّه والتمس وجهه بصفاء النيّة وصدق القلب لا يجد البغض مدخلًا إلى قلبه ولا يحرّكُ العنف يديه. فهو أصلًا أخي في وحدة أساسيّة، مهما كانت الفوارق في العقائد والتفاسير الدينيّة. ونلتقي معًا على رأس الدرب، ونحاول أن نسلك سبيل الإيمان، ودروب العدل والسلام والمحبّة، لعلّنا نلتقي في وحدة ونشترك في عمل ناجح على نطاق أوسع.
ثمّ إنّنا على يقين بأنّ العمل المشترك لا يحمل على التراع والصدام. العمل المشترك يقرّب، إن قام به الشركاء بتراهة وانفتاح، وإخلاص وتصارح في الرأي، ومودّة في النقد. ومثل هذا التعاطف هو من دعائم ثقافة السلام.
فنحن بحاجة إلى تعاطف ناقد، وتصافٍ صادق، وتصالح وُدّيّ، وتعاون مِقدام.
واتكالنا على الله. وإليه نفوّض أمرنا. فهو ربّ الحاضر والمستقبل. هو ربّ البشر وربّ تاريخهم. وعنده الكلمة الأخيرة والحكم الأخير. وبما أنّ الله رحمة ومحبّة، فأملنا ورجاؤنا أن تكون كلمتُه على تاريخنا وحكمُه على حياتنا كلمة الرضى وحكمَ الرحمة والمحبّة.