Al-Mawadda

Al-Mawadda

سماحة العلامة السيّد علي فضل الله

جسور خضراء


انها جسور العبور الى النور حيث لا حاجة إلا الى جواز المودة وتأشيرة اقوال او افكار الخير ومقالات المحبة.

أمّا مدة الصلاحية فتتجدد مع أفعال الرحمة والصالحات او الاعمال الصالحة.

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

543775_190969551047133_256439981_n

الخطبة الأولى
في الخامس والعشرين من شهر كانون الأوّل، نستعيد ذكرى ولادة نبيّ من أنبياء الله العظام، عيسى ابن مريم. هذه الولادة الّتي لم تكن ظروفها عاديّة، هي ولادة معجزة بكلّ مجرياتها… وهذه المناسبة هي مناسبة للمسلمين كما هي للمسيحيّين.
ثم إنَّ حبّ المسلمين للسيّد المسيح، ليس حبّ مصلحة، أو مسايرة، ولا انعكاساً لواقعٍ طائفيٍّ أو سياسيّ، إنّه جزء من ديننا، من إيماننا، تعلَّمناه من القرآن، كتاب الله الّذي يحدِّثنا عن موقع هذا النبيّ: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}(آل عمران:45).
هو حبّ تعلّمناه من رسول الله(ص)، كان يُكنّيه بـ”أخي”، وكان يقول :”أنا أولى النّاس بعيسى ابن مريم”، وعندما كان عليّ(ع) يصفه، كان يقول: “كان إدامه الجوع، وسراجه باللّيل القمر، وظلاله في الشّتاء مشارق الأرض ومغاربها، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يُذلّه، دابّته رجلاه، وخادمه يداه…”.
لقد تحدّث الرّسول(ص) والأئمّة(ع) طويلاً عن السيّد المسيح(ع)، عن عظمته، عن مواقفه، عن حكمته الّتي نحتاج إليها اليوم، ونقف عندها لنتعلّم منها، وما أكثرها!:
طرد اللّصوص من الهيكل
بعض النّاس، أيّام السيّد المسيح، كانوا يستغلّون بيت المقدس لممارسة معاملاتهم الربويّة، حتّى إنَّ هناك من الكهنة اليهود من كان يستفيد من موقعه الدّيني لتحقيق مطامع خاصّة. وكانوا يستغلّون احترام النّاس لمواقعهم، ظنّاً منهم أنّه لن يتجرّأ عليهم أحد. كانوا يتلطّون خلف المقدس لتحقيق الإثراء، ويُمالئون السّلطة، ولو اضطرّهم الأمر لتحريف ما جاء به نبيّهم موسى.. واكتشف السيّد المسيح الأمر، ورغم شخصيّته المتسامحة الّتي عُرِف بها ، دخل بيت المقدس على هؤلاء حاملاً سوطه، وطردهم من الهيكل، وكان يقول: “أخرجوا اللّصوص من الهيكل”.
وتظلّ هذه الحادثة درساً لنا: كيف نميّز وندقّق بين المبادئ ومن يحمل لواء هذه المبادئ، وكيف نميّز بين المقدس ومن يحمل لواءه. إنّ المبادئ والمقدّسات، أيّها الأحبّة، ثابتة لا تتلوّن، أمّا الأشخاص فقد يتلوّنون… لهذا، فإنّ النّقد ضروريّ، وإن اضطرّ الأمر لرفع الصّوت عالياً، لأنّ الضّرر هنا لا ينعكس على الأشخاص فقط، بل ينسحب على الدّين كلّه، كما نشهد في كلّ ساحاتنا…
محاكمة الذّات قبل الآخرين
درسٌ آخر نحتاج إليه في أدبيّاتنا الاجتماعيّة والسياسيّة. مرّة، اجتمع كثير من النّاس ليرجموا امرأةً ثبت عليها حدّ الزّنا، وبدا عليهم الغضب والشّماتة، وقبل البدء بالتّنفيذ، وقف السيّد المسيح بين الجموع محدّداً شرطاً للّذي يريد أن يشارك في الرّجم، قائلاً: “من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر”.
هكذا كان السيّد المسيح يعلّم الإنسان كيف يُحاكم نفسه قبل أن يُحاكِم الآخرين. لذلك لم يرجمها أحد.. لماذا؟ لأنّ كلاً منهم رأى خطاياه في هذه المرأة، وقد توازي خطيئة تلك المرأة أو أكبر منها.
فضيلة الإنصاف
ومن مدرسة السيّد المسيح، أنّه مرّ وبعض حواريّيه بجيفة كلب، فأمسك الحواريّون أنوفهم لشدّة رائحتها، وقالوا ما أشدّ نتن رائحته! ولكنّ السيّد المسيح قال: “ما أشدّ بياض أسنانه!”. لقد أراد أن ينبّهنا إلى فضيلة أساسيّة هي فضيلة الإنصاف.. عليك أن تكون منصفاً.. ألم ترَ في هذا الكلب، الجيفة، غير رائحته؟ لماذا لا تنظر إلى الجانب المشرق أيضاً فيما تراه؟ لماذا لا ترى غير النّصف الفارغ من الكوب؟ تفاءل، وانظر إلى الجانب الجميل من الحياة، ودعِ الإحباط حتّى ولو كان الواقع جيفةً نتنة.
كانوا يسمّونه المعلّم، مع كلّ خطوة كان يترك درساً، وعبرة، وموعظة: عندما مرّ يوماً بقبر يُعذَّب صاحبُه، ثم مرّ به السنة التّالية، فإذا هو قد رُفع العذاب عنه، فقال : يا ربّ، أنا مررت بهذا القبر وهو يعذّب، ثم مررت به هذا العام وها هو العذاب قد رُفع عنه، فأوحى إليه: يا روح الله، لهذا الرّجل ولد صالح بلغ الحلم، فأصلح درباً، وآوى يتيماً، فغفرت له بسبب ابنه… فالتفت إلى حواريّيه وقال: “هكذا ربّوا أولادكم”.
المودّة للنّصارى
أيّها الأحبّة، عندما جاء رسول الله بالإسلام، جاء مصدّقاً للتّوراة والإنجيل، وسعى لعلاقة مميّزة مع الدّيانة المسيحيّة، إذ يقول القرآن الكريم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}(المائدة: 82)، وسيشهد التّاريخ، وفي كلّ المراحل اللاحقة، هذه العلاقة المميّزة الّتي لم يعكّر صفوها غير واقع سياسيّ منحرف أو ظالم، أو تكفيريّين حاربوا كلّ الّذين يختلفون معهم. هؤلاء كانوا ولا يزالون مشكلةً للمسلمين والمسيحيّين، وهذا ما حصل في الغرب، عندما استغلّ الدّين لتحقيق طموحات في الشّرق، فكانت الحروب الصليبيّة.
وهنا نشير إلى ما قاله أحد المستشرقين: “لقد عامل المسلمون العرب المسيحيّين بتسامح عظيم من القرن الأوّل الهجري، ونستطيع أن نحكم بحقّ أنّ القبائل المسيحيّة التي اعتنقت الإسلام، اعتنقته باختيارها وإرادتها”.
أيّها الأحبّة: إنَّ نظرة الإسلام إلى المسيحيّة جزء من منظومته التربويّة والروحيّة، وهي ليست حالة استثنائيّة، فالدّين واحد، تدرّج الأنبياء في تبيان أحكامه وشرائعه، إلى أن اكتملت صورته بما جاء به رسول الله خاتم الأنبياء. {قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(البقرة: 136).
وأكثر من هذا، فالإسلام يعتبر أنّه لا يكتمل إيماننا حتّى نؤمن بهم جميعاً: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ…}(البقرة:285).
القطيعة ممنوعة
ثم إنّ الإيمان ليس مجرّد فكرة وإحساس، إنما هو تعبير في السّلوك، فالقطيعة ممنوعة، والهجران والتّدابر حالة شاذّة لا شأن للدّين بها، فالتّلاقي والتّواصل على المبادئ المشتركة هو الأساس: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ…}(آل عمران:64).
وفي حال نشوب الخلافات، فللإسلام تصوّره: الحوار ثُمّ الحوار. والحوار مفتاح القلوب، ونصف الطّريق لبلوغ الحلّ.. وحتى لا يكون الحوار أسير القناعات المسبقة، فقد حدّد الإسلام طبيعة هذا الحوار، ليكون سقفه ليس الحسن بل الأحسن: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…}(العنكبوت: 46).
أمّا إذا تعطَّلت لغة الحوار، وظلَّ الاختلاف قائماً، فقد فرمل الإسلام التّصادم، ولم يجز القتل والقتال، فالقتال مبرّره الوحيد هو ردّ الاعتداء: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الممتحنة: 8).
هذه السّياقات كلّها والتّوجيهات، تحتّم علينا أن تكون علاقتنا، مسلمين ومسيحيّين، علاقة مسؤولة، تنطلق من قواعد العيش وليس مجرّد تعايش الضّرورة.
أيّها الأحبّة، إنّ الحديث عن كلّ هذا المظهر الوحدويّ، لا يعني عدم وجود اختلافات قد تمسّ العقيدة، كما تدخل في تفاصيل الشّريعة، إلا أنّنا ندعو إلى أن يبقى الحوار الفكريّ والعقيديّ والتّشريعيّ مفتوحاً على طاولة البحث العلميّ، بعيداً عن أجواء التوتر والشحن الطّائفي أو الدّيكور..
مواجهة الإقصائيّين
أيّها الأحبّة، في هذه الذّكرى الجامعة المتّفقة على صاحب الذّكرى وعلى قيمه، قيم المحبّة والرّأفة والتّسامح، فإنّ مسؤوليّتنا كمسلمين أن نشيع مناخ التّواصل والودّ والتّآلف، بدلاً من أجواء الرّفض والإنكار الّتي تولّد شعوراً عند المسيحيّين، بعدم الأمان أو الاستقرار أو الخوف على المستقبل والمصير.. علينا جميعاً أن نقف بوجه كلّ الإلغائيّين والإقصائيّين ورافعي رايات العنف..
وبدلاً من أن نواجه بعضنا بعضاً بالخوف والخوف المضادّ، والتّهديد والردّ عليه بين ساحات وجودنا شرقاً وغرباً، فلْنعمل معاً لإنقاذ هذا العالم مما يُعاني، من اللاروح، واللاقيم، واللاأخلاق، وتراجع العلاقات الإنسانيّة…
الآخرون، كلّ الآخرين، يريدون أن تكون الأديان هي المشكلة، ونحن نقول لهم، بل هي الحلّ، وعلينا أن نثبت لهم ذلك..
تعالوا لنقف صفّاً في مواجهة الكفر الّذي يريد إبعاد الدّين عن ساحة الحياة، ووضعه دوماً في قفص الاتهام..
تعالوا لنقف صفّاً واحداً في مواجهة الّذين يريدون تهويد مهد السيّد المسيح، وتهويد القدس، ولنعمل على إعادتها إلى إشراقة الرّسالات..
تعالوا لنقف صفّاً واحداً في مواجهة الاستكبار، فهو ليس مسيحيّاً ولا إسلامياً، إنما هو أزمة للبشريّة…
لنصغ إلى محبّة السيّد المسيح، ورحمة السيّد المسيح، وعنفوان السيّد المسيح في وجه الباطل، لتسلم الحياة وتنمو.
في ذكرى يوم الميلاد، نتوجّه بالتّهنئة للمسلمين والمسيحيّين، سائلين الله سبحانه وتعالى أن يعيد هذا العيد علينا بالوحدة والألفة والمحبّة.
{وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً* ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}(مريم: 33-34).